تبحث الدول الأوروبية في إمكانية إعادة فرض الخدمة العسكرية الإلزامية لتعزيز قدراتها الدفاعية في مواجهة أي تهديد روسي محتمل. يأتي ذلك في ظل المخاوف المتزايدة من احتمال تخلي الولايات المتحدة عن التزاماتها الأمنية تجاه القارة الأوروبية، إضافة إلى استمرار الحرب في أوكرانيا منذ ثلاث سنوات.
شكلت العملية العسكرية التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا عام 2022 صدمة لأوروبا، ما أثار تساؤلات حول متانة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، خاصة مع تغيرات السياسة الخارجية الأميركية بقيادة الرئيس دونالد ترامب، الذي يؤكد على ضرورة أن تتحمل أوروبا مسؤولية أمنها.
ويرى الخبراء العسكريون والحكومات الأوروبية أن التهديد الروسي بات أكثر خطورة مما كان عليه قبل ثلاث سنوات.
ووفقًا للباحث ألكسندر بوريلكوف من جامعة هايدلبرغ، فإن الجيش الروسي أصبح اليوم أكبر وأفضل تجهيزًا، مع نوايا عدائية تجاه دول البلطيق والجناح الشرقي للاتحاد الأوروبي.
وتشير دراسة أعدها بوريلكوف بالتعاون مع "مركز بروغل البحثي" و"معهد كيل" إلى أن أوروبا تحتاج إلى 300 ألف جندي إضافي لتعزيز دفاعاتها، إلى جانب 1.47 مليون جندي في الخدمة حاليًا.
ويؤكد الباحث أن التجنيد الإلزامي قد يكون حلاً لزيادة عدد القوات بشكل سريع وفعال.
في ظل التهديدات الأمنية، يسعى القادة الأوروبيون، من باريس إلى وارسو، إلى زيادة الإنفاق الدفاعي. غير أن دولًا مثل فرنسا وبريطانيا تواجه تحديات في تجنيد الجنود والاحتفاظ بهم، ما يجعل إعادة الخدمة العسكرية الإلزامية أمرًا صعب التحقيق.
وأظهرت استطلاعات الرأي التي أجرتها "مؤسسة يوغوف" أن غالبية الفرنسيين (68%) والألمان (58%) يؤيدون إعادة الخدمة العسكرية الإلزامية، بينما ينقسم الإيطاليون والبريطانيون حول المسألة، في حين يعارضها 53% من الإسبان. ومع ذلك، تشير الدراسات إلى أن العديد من الأوروبيين غير مستعدين للقتال دفاعًا عن بلدانهم.
وترى الخبيرة الفرنسية بينيديكت شيرون أن فرض الخدمة العسكرية في المجتمعات الليبرالية أصبح صعبًا للغاية، حيث لا يبدو من الممكن تقبل تكاليف معاقبة الرافضين للخدمة في غياب تهديد مباشر.
محاولات لإحياء الخدمة العسكرية
بعد الحرب الباردة، ألغت معظم الدول الأوروبية التجنيد الإجباري، باستثناء تسع دول حافظت عليه، منها اليونان والنمسا وفنلندا.
وعادت ليتوانيا إلى الخدمة الإلزامية في 2015، تلتها السويد في 2017، ولاتفيا في 2023. غير أن الدول الخمس الأكبر إنفاقًا في الناتو - فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة وإيطاليا وبولندا - لا تزال مترددة في إعادة فرض التجنيد الإجباري.
وتعمل بولندا، التي ألغت الخدمة الإلزامية في 2008، على إطلاق برنامج تدريب عسكري لـ100 ألف مدني سنويًا بدءًا من 2027، ليكون تطوعيًا مدعومًا بحوافز، وفقًا لرئيس الوزراء دونالد توسك. أما في ألمانيا، فقد أعرب المستشار العتيد فريدريش ميرتس عن دعمه لفكرة سنة إلزامية للشباب تشمل الخدمة العسكرية أو المجتمعية.
في بريطانيا، التي أنهت التجنيد الإجباري عام 1963، لا توجد خطط لإعادة فرضه، كما أكد وزير شؤون مجلس الوزراء بات ماكفادن، مشيرًا إلى التركيز على زيادة الإنفاق الدفاعي. وفي فرنسا، يبحث الرئيس إيمانويل ماكرون عن وسائل جديدة لتشجيع الشباب على الخدمة العسكرية، لكنه أقر بأن بلاده تفتقر إلى البنية التحتية اللازمة لإعادة فرض الخدمة الإلزامية.
أما في إيطاليا، فقد استبعد وزير الدفاع غيودو كروسيتو إعادة التجنيد الإجباري، لكنه أيد إنشاء قوة احتياطية لتعزيز الدفاع الوطني.
دروس من دول البلطيق
يشير الباحثون إلى أن الدول الغربية قد تستفيد من تجربة دول البلطيق والدول الإسكندنافية، لا سيما فنلندا، التي تمتلك واحدة من أكبر قوات الاحتياط في أوروبا، نتيجة تاريخها الحافل بالصراعات مع روسيا.
ويحذر بوريلكوف من استمرار الانقسام بين الشرق والغرب في أوروبا، حيث لا يزال استعداد الأوروبيين الغربيين للقتال أقل من نظرائهم في الشرق. ويرى أن تعزيز القدرات العسكرية الأوروبية قد يزيد من ثقة المواطنين بها، ما قد يشجع على التطوع للخدمة.
وفي ظل تراجع الدعم الأميركي، تعي الدول الأوروبية مدى ضعفها الدفاعي، الأمر الذي يدفعها إلى البحث عن حلول جديدة لضمان أمنها في المستقبل.
[caption id="attachment_634490" align="alignnone" width="2405"]

دول أوروبية تشعر "بخطر" وتطرح إعادة الخدمة العسكرية الإلزامية لمواطنيها[/caption]